نتعلم ان شاء الله كيف نحفظ سورة طويلة من القرآن، بيسر وسهولة، لنبدأ هذه الرحلة....
يقول سبحانه وتعالى في محكم الذكر: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [سورة يوسف: الآية 111]. إذن إذا أردت أن تحفظ أي قصة من قصص القرآن فلابد أن تفهمها وتستخرج منها العبر والمواعظ ثم تبدأ بالحفظ لتجد نفسك تحفظ هذه القصة بسهولة.
إنها بحق من روائع القصص القرآني، إنها سورة يوسف... وأتذكر جيداً كيف كانت هذه السورة بداية رحلتي في حفظ كتاب الله تعالى. فمن أهم الأشياء وحتى تجد متعة حقيقية في الحفظ، هو أن تبدأ بحفظ ما تحب وما يلفت انتباهك دون التقيد بترتيب محدد، فالهدف هو رضاء الله تعالى وإتقان حفظ القرآن، أو شيء من القرآن، وليس الهدف أن تحفظ القرآن بالتسلسل فحسب، بل إنك لأن تحفظ سورة واحدة بتدبر تريد بها وجه الله، خير لك من أن تحفظ القرآن كاملاً فقط من أجل الحفظ أو ليقول الناس إنك من حفظة القرآن!
ولذلك كان هذا منهجي في الحفظ، وكانت النتيجة أن ما أحفظه يستمر طويلاً ولو لم أراجعه! فقد كنتُ أترك كل شيء وأجلس مع كتاب الله تعالى لأحفظ وأجد لذة عظيمة في ترتيل القرآن والاستمتاع بمعانيه التي تأخذ بالألباب.
سوف نجرب الآن حفظ سورة يوسف عليه السلام، ولكن قبل البدء بهذا العمل يجب أن نجزئ هذه السورة إلى مقاطع حسب أحداث هذه القصة، ثم نحفظ كل مقطع على حدة، ثم نربط المقاطع بعضها ببعض، لنجد أنفسنا قد حفظنا هذه السورة دون جهد يُذكر.
سوف أترك لك عزيزي القارئ حرية تجزيء هذه السورة إلى مقاطع تناسب قدرتك على الحفظ، قد تكون المقاطع كبيرة أو صغيرة. وسوف أعطيك فكرة عن هذه القصة وما فيها من عبر، لتتأثر معي بهذه الأحداث والمواقف، وهي نفحات من هذه السورة العظيمة.
أحسن القَصَص
مع أن قصص الأنبياء في القرآن الكريم تأتي ضمن آيات السورة، إلا أن القرآن قد تناول هذه القصة على مدى سورة كاملة بسبب أهميتها وكثرة العِبَر والمواعظ والفوائد التي تقدمها لنا هذه القصة. ولذلك نجد الله تعالى يخاطب حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلَّم فيقول له: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف: 3].
ويرى يوسف مناماً فيقول لأبيه: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يوسف: 4-5]. إن الأب يعرف أبناءه ويعرف بأن يوسف هو أفضلهم وأنهم يكرهونه، ولذلك أمَرَه ألا يخبر إخوتَه، لأنه خاف أن يفعلوا أي سوءٍ بيوسف.
إخوة يوسف
لقد كان ليوسف عدد من الأخوة الذين كانوا يحسدونه على مكانته من أبيهم، وكانوا يريدون أن يفرّقوا بينه وبين أبيه، ويحاولون دائماً صنع المكائد ليوسف لأن أباهم يحبّه كثيراً، وذات يوم اجتمعوا واتفقوا على أن يأخذوا يوسف ويرموه في الجُبّ أو البئر. وبذلك يتخلّصون منه ويكسبون مودّة أبيهم يعقوب، وهكذا جاءوا إلى أبيهم واحتالوا عليه وقالوا له: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) [يوسف: 11-14]. طبعاً هم يكذبون على أبيهم، ولذلك سوف ينكشف كذبهم بعد فترة من الزمن.
ويذهبون بيوسف
ويوافق الأب يعقوب عليه السلام على إرسال يوسف معهم، ويأخذونه إلى مكان بعيد حيث يوجد البئر أو الجُبّ، ويحتالون على يوسف ثم يلقونه في هذا البئر ويهربون إلى البيت! ولكنهم قبل ذلك أخذوا قميص يوسُف وبلّلوه بالدم وجاءوا إلى أبيهم يعقوب وهم يبكون. فقالوا لأبيهم: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 16-18]. ونرى هنا كيف يصبر الأب يعقوب عليه السلام على هذه المصيبة، ويسلّم الأمر لله. وهكذا نحن يجب أن نصبر على المصائب ونسلّم الأمر لله تعالى، ولا نلجأ إلا إلى الله في كل أمورنا وكل حياتنا.
ما هو مصير يوسُف
لقد كان الله مع يوسُف ولم يتركه أبداً لأنه كان طفلاً مؤمناً ويخاف الله ولا يعصيه وكان يحبّ الله فأحبّه الله. ولذلك فقد هيّأ الله له وهو في الجُبّ مكاناً لا يخاف فيه، وحماهُ من أي أذىً قد يصيبه. وجلس يوسف في الجبّ وهو ينتظر من يأتي لينقذه، حتى جاءت قافلة فأرسلوا غلامهم ليجلب لهم الماء من الجُبّ، وعندما أنزل الدلو إلى البئر تعلّق به يوسُف وصعد معه إلى الأعلى، فرآه هذا الغلام فأسرع وقال: لقد وجدتُ طفلاً!! وعندها أخذه أحد التجّار معه إلى مصر وعرضه للبيع، فجاء أحد الأمراء وهو العزيز فاشتراه بثمن رخيص جداً بعدّة دراهم فقط! (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) [يوسف: 20-21].
وتبدأ رحلة جديدة
لقد أخذ العزيز الطفل يوسف وقام بتربيته تربيةً حسَنةً، وكان دائماً يقول لزوجته: أكرمي هذا الغلام لأنه غلام طيّب. وكان يوسف يكبُر شيئاً فشيئاً ويزداد جمالاً وبهاءً وعلماً وحِكمة. وهنا يتحدث الله عن هذه المرحلة من حياة النبيّ يوسُف عليه السلام: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 22].
ولكن هذه الرحلة يتخلّلها بعض المتاعب التي كتبها الله لسيدنا يوسف عليه السلام. فقد كانت زوجة العزيز معجبة بيوسف، وكانت تحاول أن ترتكب معه الفاحشة، ولكنه كان يرفض ويقول: إن سيدي العزيز قد أكرمني كثيراً وأنا أخاف الله تعالى فكيف أصنع شيئاً يغضب الله؟ وهكذا يجب على كل مؤمن يحبُّ الله تعالى، أن يمتنع عن المعصية التي تُغضب الله عز وجل. وأن يبقى في حالة خوف دائم من الله سبحانه. فالله تعالى يرانا حيثما كنا. لذلك قال يوسف: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23]. وكان في ذلك الزمن يسمّون السيّد أو الزعيم بالربّ.
يوسف يدخل السجن
لقد غضبت زوجة العزيز من يوسف وحاولت أن تقترب منه بالقوة وترغمه على فعل ما تشاء، ولكنه رفض وهرب منها فمزَّقت قميصَه من الخلف وهو يهرب. وفجأة يأتي العزيز فتُسرع هذه المرأة وتقول لزوجها: إن هذا الفتى يوسف حاول أن يعتديَ عليّ!! ويقول يوسف: إنها هي التي حاولت معي لأفعل الفاحشة، ولكنني هربت منها، فأمسكت قميصي فتمزَّق من الخلف.
ويأتي شاهد حكيم من أهل هذه المرأة فيحكم بينهم ويقول: إذا كان قميص يوسف قد تمزق من الأمام، فمعنى هذا أنه هو الذي كان يقترب منها ويحاول أن يعتدي عليها. أما إذا كان قميص يوسف قد تمزق من الخلف فمعنى ذلك أنه كان يهرب منها وهي تلحق به وتحاول الاعتداء عليه فشدّت قميصه من الخلف فتمزق.
وهكذا يقوم العزيز بفحص قميص يوسف ليجده ممزقاً من الخلف، ويثبت له أن يوسف بريء من اتهامات زوجته وأنه صادق في كل كلمة قالها. فيوبّخ زوجته على ما فعلته بحق يوسف، ويطلب منها أن تتوب عن هذا العمل السيئ. ولكن الأمر قد انتشر في المدينة وأصبحت النساء تتحدثن عن زوجة العزيز وحبّها ليوسف، وأنها مخطئة. ولكن زوجة العزيز جمعت نساء المدينة وأعطت كل واحدة منهنّ سكيناً،ً ثم قالت ليوسف اخرج، وعندما رأينهُ أُعجبن بجماله لدرجة أن هؤلاء النسوة قطّعن أصابعهن بالسكاكين وهن لا يشعرن! وتقول النسوة: إن هذا ليس بشراً، بل هو ملاك كريم. وعندها قالت زوجة العزيز للنساء: هذا هو يوسف الذي تلومونني فيه، وسوف أدخله السجن إذا لم ينفذ ما أطلبه منه.
يوسف يفسر الأحلام
ولذلك فقد رأى العزيز أن يضع يوسف في السجن ليُنهي هذه الفتنة، وينهي كلام نساء المدينة. وربما نعجب إذا علمنا أن يوسف عليه السلام قد فضّل السجن على أن يعصي الله تعالى!!! ولذلك فقد قال: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف: 33-34].
ويدخل يوسف السجن ويشاء الله تعالى أن يلتقي بفتَيان اثنان هناك في السجن. فيقول أحدهما: إنني أرى حُلُماً وأريد أن أسأل عن تفسيره، إنني أرى نفسي أعصر العنب لأصنع منه خمراً. فيقول يوسف: إن تفسير هذا الحلم هو أنك سوف تحمل الخمر وتسقي سيدك منه، وهذا هو ما سيحدث معك، ولكنك ستعيش، ولذلك أرجو منك أن تذكر لسيّدك قصَّتي، وأنني أستطيع أن أفسر الأحلام.
ويقول الفتى الثاني: إنني أرى حُلُماً وأريد أن أسأل عن تفسيره أيضاً، إنني أرى نفسي في الحلم واقفاً وعلى رأسي خبز، وتأتي الطيور وتأكل من هذا الخبز. ويقول يوسف: إن تفسير هذا الحلم هو أنك ستُصلب على خشبة ثم تموت وتأتي الطيور وتأكل من رأسك!
ويخرج الفتيَان من السجن، وكما حدثهما يوسف، فالفتى الثاني يرتكب خطأً فيُصلب ويموت وتأتي الطيور لتأكل من رأسه. أما الفتى الأول فقد حمل الخمر لسيده وسقاه منه، ولكنه نسيَ أن يذكر لسيّده قصة يوسف.
الملك يرى حلماً
ولكن ملك مصر يرى حُلُماً وهو نائم فيخرج على وزرائه في اليوم التالي يريد تفسيراً لهذا الحلم، فيقول لهم: لقد رأيت في الحلم سبع بقرات سِمان، أي كبيرات وذات وزن كبير، ويتابع الملك الرؤيا فيقول أرى أيضاً سبع بقرات عِجاف أي هزيلات ونحيفات، وأرى أيضاً سبع سنابل خضر، وأرى أيضاً سبع سنابل يابسات.
ويسأل الملك عن تفسير حلمه، ويطلب منهم أن يحضروا له من يفسر هذا الحلم، فقالوا له إننا لا نعلم تفسير الأحلام، ولكن سنبحث لك عن شخص يستطيع تفسير هذا الحلم. (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43].
ويأتي ذلك الفتى الذي كان مع يوسُف في السجن ويتذكر أن يوسُف يستطيع تفسير هذا الحلم ولكن يوسف موجود في السجن فما هو العمل؟ ذهب هذا الفتى إلى قصر الملك وأخبرهم بأن هنالك رجل يستطيع تفسير هذا الحلم اسمُه يوسف ولكنه في السجن، فذهبوا إليه وأخبروه بالحلم وطلبوا منه أن يفسر حلم الملك.
تفسير حلم الملك
لقد قال لهم يوسف: إن تفسير هذا الحلم هو أن البقرات السبع السَّمينات ترمز إلى أنه ستأتي سبع سنوات خير ويكون محصول القمح وفيراً وكبيراً. أما البقرات السبع النحيفات فترمز إلى أنه سيأتي بعد ذلك سبع سنوات من القحط والجفاف والمحصول سيكون قليلاً جداً. ولكن بعد ذلك سيأتي عام بعد سنوات الجفاف ينزل المطر وينمو الزرع من جديد وتنتهي المجاعة. يقول تعالى عن هذا الأمر: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف: 47-49].
لقد أُعجب الملك بهذا التفسير وعمل على استغلال سنوات الخير وتخزين القمح في المستودعات وعمل كذلك على الاستعداد لسنوات الجفاف التي ستأتي بعد ذلك.
ويظهر الحق
ولذلك فقد أمر الملك أن يحضروا يوسف إليه، ولكن يوسف رفض ذلك حتى يثبت أنه بريء من التهمة التي دخل بسببها إلى السجن، وأن زوجة العزيز هي التي راودتْه عن نفسه وأنه لم يكن ليعتدي عليها، إنما هي التي اعتدت عليه. وعند هذا الموقف جاءت زوجة العزيز وقالت: الآن سأقول الحق، إن يوسف بريء من التهمة التي دخل بسببها إلى السجن، وأنا الذي حاولتُ أن أراوده عن نفسه، ولكنه رفض ولم يفعل أي شيء يُغضب الله تعالى.
وهنا يحدثنا القرآن الكريم بأسلوب بليغ ورائع عن براءة سيدنا يوسف، وهذه هي زوجة العزيز أو كما سمَّاها القرآن امرأة العزيز تقول: (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف: 51-52].
وهكذا ظهر الحقّ واعترفت زوجة العزيز بالحقيقة. وهي التي حاولت قبل ذلك أن تفعل معه الفاحشة التي تغضب الله عزّ وجلّ. لقد جاءت براءة يوسُف وعلم الملك أن هذا الشاب صادق ونقيّ ومؤمن، ولذلك بعث من يحضر له يوسف. وعندما جاء يوسف وحضر أمام الملك، قال له الملك: إنك في هذا اليوم قد أصبحت قوياً وسوف نعطيك ما تريد، وسوف أعتمد عليك.
ويرد يوسف: إن لدي علم كبير في إدارة شؤون المال والحسابات، فأرجو أن تسلّمني هذا المنصب، وسوف أقوم بجميع الحسابات بشكل ممتاز. ويسلّم الملك ليوسف هذا المنصب، وتزدهر مصر في عهد سيدنا يوسف وتصبح أكثر غنىً وأكثر قوة. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 56].
مجاعة السبع سنوات
لقد حدثت المجاعة، انتهت سنوات الخير السبعة وجاءت سنوات الجفاف السبعة الجديدة، وبدأ الناس يلجأون إلى ملك مصر ليعطيهم القمح من أجل طعامهم. والملك قد سلّم هذه المهمة إلى سيدنا يوسف عليه السلام الذي أصبح مسؤولاً عن توزيع القمح على الناس من مختلف البلاد. ووصلت هذه المجاعة إلى قرية سيدنا يعقوب عليه السلام أبو يوسف، فأرسل أبناءه أي إخوة يوسف إلى مصر لجلب بعض القمح.
ويذهبون إلى مصر ليجلبوا القمح من عند سيدنا يوسف وهم لا يعلمون أنه يوسف، بل ظنوا أنه قد أخذه بعض الناس وأصبح عبداً عندهم. لم يكونوا يتخيّلون أبداً أن يوسف قد أصبح عزيز مصر يوزع القمح ويتحكم بالأموال وبيده خزينة الدولة كلِّها. يقول تعالى عن هذه المرحلة من حياة سيدنا يوسف: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يوسف: 56-57]. وهكذا جعل الله سيدنا يوسف قوياً متمكناً مما يريد، يذهب ويأتي حيث يشاء بحرية تامَّة، وهذا من فضل الله تعالى على سيدنا يوسُف لأنه صبر كثيراً على أذى إخوته له.
ويأتي إخوة يوسف
لقد دخل إخوة يوسُف على يوسُف فلم يعرفوه، ولكنَّه عرفهم!! فقال لهم: ما هي الكمية التي تحتاجونها من القمح؟ ويقولون :نحتاج لكمية تكفينا، وتكفي أبانا وأخانا الصغير، والذي بقي عند أبيه. يقول: لماذا لم تحضروا معكم أخاكم الصغير؟؟ يقولون: إن أبانا متعلّق به كثيراً ولا يتركه أبداً. ويقول لهم يوسف: سوف أعطيكم ما تريدون من القمح ولكن بشرط أن تحضروا لي أخاكم الصغير الذي تركتموه عند أبيكم. يقول تعالى: (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) [يوسف: 59-61].
فالله خير حافظاً
لقد عادوا إلى أبيهم وقالوا له: يا أبانا نرجو منك أن ترسلّ معنا أخانا الصغير، لأن العزيز في مصر قد منعنا من أن نأخذ حصتنا من القمح، وهو يريد منا أن نحضر معنا أخانا الصغير. يقول أبوهم: هل تريدونني أن أرسله معكم لتفعلوا به كما فعلتم بيوسف؟؟ (فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين)!!!
ويردون: يا أبانا سوف نرجعه لك ولن نفعل به أي سوء، وسوف نأخذه معنا لنأخذ القمح ونعود به. فيقول لهم: لن أرسلَه معكم حتى تقسموا بالله تعالى أن ترجعوه لي، وحتى تعطوني عهداً أمام الله تعالى بأنكم ستردّونه لي، إلا أن يقدّر الله أمراً خارجاً عن إرادتكم.
وهكذا يقسم إخوة يوسف بأنهم لن يمسّوا أخاهم الصغير بأذىً، وأنهم سيعودون به إلى أبيهم فور حصولهم على القمح من مصر. يقول تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [يوسف: 67].
ويعودون مرّة أخرى
ويذهب إخوة يوسف باتجاه مصر آخذين معهم أخاهم الصغير، ويحيطونه بكل الرعاية والحرص حتى وصلوا إلى العزيز «أي يوسف». ويدخلون إليه، ومعهم أخوهم الصغير الذي كان طيّب القلب ولم يكن يريد الأذى لأحد، وكان مختلفاً عن إخوته. ولذلك فقد قرَّبه أبوه منه بعدما ذهب يوسف.
لقد أراد يوسف عليه السلام ألا يخبرهم بأنه هو يوسف، وتركهم لا يعرفونه. ولكنه نادى لأخيه الصغير وقال له لا تخَف، إنني أنا أخوك يوسف، وفرح الأخ الصغير به كثيراً، وقال له يوسف لا تخبر إخوتك، وسوف أصنع حيلة بسيطة لأبقيك عندي هنا من دون أن يشعروا. وهنا يخبرنا القرآن عن هذا الأمر بقوله تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [يوسف: 69]. وهكذا قرّب أخاه منه وأخذه لداخل القصر دون أن يشعروا بذلك. وأخبره ألا يحزن مما يجري. وأراد يوسف عليه السلام أن يصنع معهم حيلة بسيطة ليأخذ أخاه الصغير.
وعاء الملك
لقد أمر يوسُف فتيانه أن يضعوا صاع الملك أي المكيال أو الوعاء الذي يزن به القمح، أمرهم أن يضعوه في أمتعة الأخ الصغير. وأمرهم أن يعلنوا عن سرقة هذا المكيال، وأن يبحثوا عنه! وبدأ فتيان الملك بالبحث عن وعاء الملك بين أمتعة إخوة يوسف، وفجأة استخرجوا هذا الوعاء من أمتعة الأخ الأصغر. وهنا يعلن فتيان يوسف أن الأخ الأصغر سرق وعاء الملك، ويجب أن يدخل السجن!
ويقول إخوة يوسف: إننا لم نأت هنا لنسرقْ، ولكن هذا الفتى الصغير سارق، ولكننا يجب أن نرجعه لأبيه لأنه سيحزن كثيراً. ويقول لهم يوسف: إن من سرق سيدخل السجن ولن أرسله معكم. فقالوا له: يا أيها العزيز أن أخانا هذا له أب كبير السنّ، ولا نستطيع أن نعود من دونه. ثم توسل إخوة يوسف كثيراً إلى العزيز، ولكنه رفض أن يرسل أخاهم الأصغر معهم، وأبقاه عنده في القصر وأكرمه كثيراً وبدأ يتحدث معه عن أخبار أبيهم يعقوب. يقول تعالى: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) [يوسف: 79].
إخوة يوسف في حَيْرة
لقد ازداد إخوة يوسف حرجاً في هذا الموقف، ولم يعرفوا كيف يتصرّفون، بعدما أعطوا أباهم موثقاً وعهداً أن يردّوا إليه ابنه الصغير. ولذلك فقد قال لهم الأخ الأكبر: ارجعوا إلى أبيكم وأخبروه بما حدث وقولوا له إن ابنك الصغير قد سرق، ونحن صادقون.
وهنا يصف لنا كتاب الله تعالى هذا الموقف الصعب بقول الله عزّ وجلّ: (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) [يوسف: 80-81].
ويعودون إلى أبيهم
وهكذا يرجع أخوة يوسف إلى أبيهم يعقوب عليه السلام، ويخبرونه بما حدث معهم، وأن أخاهم الصغير قد سرق وهو في السجن! وهنا يشتدّ حزن هذا الأب ويقول لهم: لا بدّ أنكم صنعتم به مكروهاً، وسوف أصبر حتى يردّه الله لي ويردّ معه يوسُف أيضاً: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 83]. ويحزن يعقوب على ولديه، ولا يجد أمامه إلا أن يلجأ إلى الله تعالى في مثل هذه الظروف الصعبة. ويبتعد عنهم وهو يقول: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) ويكرّر هذه العبارة، ويتأسّف على يوسف وأخيه، وكيف أرسله معهم.
يعقوب يفقد بصره!
ومن شدّة حزنه أصبح أعمى لا يبصر، لقد ذهب بصره بسبب حزنه على ولديه، ويحاول أبناؤه أن يخففوا عنه، ولكنه يزداد حزناً وألماً على أغلى شيء في حياته وهو ولديه.
ويعودون من جديد ويقولون له: لا تتذكر يوسف لأن هذا سيؤثر على صحتك كثيراً. ولكنه يشكو حزنه إلى الله تعالى. ويحدثنا القرآن عن كلام يعقوب وخطابه لربه واستغاثته به: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86]. والبثّ هو شدّة الحزن، وتأمّل معي هذا الكلام الرائع، وهو في قمّة الحزن لم يفقد الأمل من الله بل قال: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أي أنا متأكد أن الله سيرجعهم لي قريباً!!! وهذا هو صبر الأنبياء، فأين نحن اليوم من هذا الصبر؟!
فهل لدينا القدرة على مثل هذا الصبر؟ عندما تصيبنا أية مصيبة هل نتذكر قصة يوسف وحزن يعقوب على ولديه، وكيف فقد بصره وأنه لم يفقد الأمل من الله سبحانه وتعالى، كيف يفقد الأمل من الله والله هو أرحم الراحمين؟
ثم يبدأ سيدنا يعقوب بالتطبيق العلمي لهذه الثقة بالله، ويقول لأبنائه: اذهبوا فابحثوا عن يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من رحمة الله!! لنقرأ هذا القول ولكن بلغة القرآن العظيم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87]. وهكذا طلب سيدنا يعقوب من أولاده أن يبحثوا ويفتشوا في كل مكان ولكن من دون تسرع بل بهدوء، وألا يفقدوا الأمل من رحمة الله تعالى.
ويذهب الإخوة من جديد
لقد تألّم إخوة يوسف كثيراً على أبيهم، ورجعوا إلى مصر لرؤية العزيز يوسف وهم لا يعلمون أنه يوسف! ويصلون إليه ويقولون له: لقد تألّمنا كثيراً، وأبونا قد فقد بصره ولم يعد لدينا أي شيء، فنتوسّل إليك أن ترسل معنا أخانا الصغير، عسى أن نرجعه لأبيه فيعود له البصر.
يقول يوسف: الآن أصبحتم تتوسلون، هل تعلمون ماذا فعلتم بأخيكم يوسف من قبل؟؟ وهل تذكّرتم عندما ألقيتم به في الجبّ؟؟ ويقولون على الفور: هل أنت يوسف!!!؟ ويقول: نعم أنا يوسف وهذا أخي الصغير، لقد صبرنا كثيراً ولذلك فقد منّ الله علينا وأكرمنا ونجّانا منكم: (قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 90-92].
ويرتدّ بصر يعقوب
ثم يقول لهم يوسف عليه السلام: ولكن الآن خذوا قميصي هذا، واذهبوا به إلى أبيكم، وضَعوا هذا القميص على وجهه، وسوف يرتدّ إليه بصره! وأرجو بعد ذلك أن تأتوا إلى هنا بأهلكم جميعاً إلى هذا القصر. وعندما رجعوا إلى أبيهم حاملين القميص وقبل أن يصلوا إلى المنْزل، شمَّ الأب يعقوب عليه السلام رائحة عرق يوسف، وقال على الفور: إنني أشمّ رائحة ابني يوسف. ويقول له من حوله: ألا زلت تذكر يوسف وقد أكله الذئب؟
ويأتي إخوة يوسف ويضعوا قميص يوسف على وجه أبيهم فيعود بصره كما كان من قبل!! ويقول لهم يعقوب: لقد قلتُ لكم إنني أعلم أشياء من الله لا تعلمونها أنتم. وهنا يحسّ إخوة يوسف بخطئهم وذنبهم فيطلبون العفو والمغفرة ويقولون لأبيهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف: 97-98]. لقد اعترفوا بأخطائهم، وهذا أمر جيد، ولذلك وعدهم يعقوب عليه السلام أنه سيستغفر لهم الله ويدعو الله لهم بالمغفرة، وأن يتوب الله تعالى عليهم من هذه الذنوب.
ويتحقق الحُلُم
وبعد أن فرح يعقوب بأن ولده يوسف لا زال حياً وأنه أصبح ملكاً لمصر، وبعد أن عاد إليه بصره، حمد الله كثيراً. ثم أخذ أبناءه وذهبوا إلى مصر ودخلوا إلى قصر الملك يوسف. وقد كانت العادة وقتها أن كل من يدخل على الملك يجب أن يسجد له وينحني أمامه، ولذلك دخل أبو يوسف وأمّه إلى القصر، ورفعهم يوسف فوق العرش احتراماً وإجلالاً لهم.
ثم دخل إخوته وعدد هؤلاء الإخوة أحد عشر، وسجدوا له، وبذلك تحقق حلم سيدنا يوسف عندما قال: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 4]. فالمقصود بأحد عشر كوكباً، أي إخوته وعددهم 11، والمقصود بالشمس والقمر هو أمه وأبوه. وهكذا يتحقق الحلم الذي رآه عندما كان صغيراً. وفي هذا المشهد يبقى سيدنا يوسف على تواضعه أمام أبويه وتواضعه لله تعالى، ويتذكر نعمة الله عليه ولا ينساها أبدأً ويخاطب أباه فيقول له: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) [يوسف: 100].
دعاء سيدنا يوسف عليه السلام
لقد دعا سيدنا يوسف وهو في هذه الحالة دعاءً عظيماً، يعبّر فيه عن شكره لله تعالى، ويتذكر عَظَمَة الخالق تبارك وتعالى، ويعترف بأنه عبدٌ لله مهما نال من الملك. ويطلب من الله تعالى أن يتوفَّاه على الإيمان والإسلام، وأن يجعله من الصالحين ويلحقه بهم يوم القيامة. لنقرأ أسلوب القرآن الرائع في التعبير عن دعاء سيدنا يوسف عليه السلام: (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101].
وأخيراً يختتم الله تبارك وتعالى هذه القصة الجميلة مخاطباً حبيبنا وسيدنا محمداً صلى الله عليه وسلّم، فيقول له: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف: 102]. أي أن هذه القصة هي من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وأنك يا رسول الله لم يكن لديك علم بهذه القصة وبالمكر الذي صنعه إخوة يوسف، لولا أن الله هو الذي أخبرك بها.
مواعظ وعبر من قصة يوسف
- إن الله تعالى قد أنجى يوسف عندما كان في الجب، وذلك لأنه كان إنساناً مؤمناً بالله وواثقاً برحمة الله تعالى، وكان مطيعاً لأبويه. وهنا نتعلّم أن كل من يطيع الله ويطيع الرسول ويطيع والديه سوف يرحمه الله وينجّيه من المهالك، وإذا أردت أن يكون الله معك في الأوقات الصعبة، فكن أنتَ مع الله في أوقاتك العادية. وعندما تعرّض سيدنا يوسف عليه السلام إلى محاولة اعتداء من زوجة العزيز، رفض أن يعصي الله لأنه كان يخاف من الله، ولذلك فقد نجَّاه الله منها.
- حتى في أصعب الأوقات عندما دخل سيدنا يوسف السجن، نجده قد صبر وفضَّل السجن على المعصية، وقال وهو في السجن: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [يوسف: 37-38].
- إن هذه القصَّة تعلِّمنا الصبر بجميع أنواعه. صبر الأب على أبنائه، وصبر الأخ على إخوته. وصبر المؤمن عندما يتعرّض للمواقف الصعبة، والتي يلجأ فيها إلى الله تبارك وتعالى. تعلّمنا أن الكذب لن يدوم طويلاً. فإخوة يوسف كذبوا على أبيهم، وقالوا بأن الذئب قد أكل يوسفَ. ولكن هذه الكذبة لم تستمر، فقد انكشفت حقيقتهم وعندها أحسّوا بالخطأ والندم والحسرة. نتعلّم أيضاً أن الله تبارك وتعالى لا يتخلّى عن عباده المؤمنين الصابرين. فبالرغم من كل المواقف التي تعرّض لها يوسف في حياته، كان دائماً يجد الله إلى جانبه، وهذا هو المؤمن الحقيقي.
- المؤمن يجب ألا يتكبر وألا يصيبه الغرور عندما يكرمه الله بنعمة أو منصب أو مال. بل المؤمن الذي يحبه الله هو من يزداد تواضعاً كلما زاد ماله وعلمه ومركزه. لذلك فقد قال يوسف قولاً عظيماً يعكس لنا قوة إيمانه بالله: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
إذن التقوى والصبر هما الطريق الوحيد للإحسان الذي نهايته إلى الجنة، والصبر هنا يجب أن يكون من أجل الله تعالى.
- لسيدنا يعقوب عليه السلام موقف عظيم يتمثل في ثقته المطلقة برحمة الله تعالى وهو في أشد حالات الحزن! بل ويأمر أبناءه ألا يفقدوا الأمل من رحمة الله وكرمه سبحانه. ولذلك فقد قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 86-87]. فالكافر هو من يفقد الأمل من رحمة الله وعطائه وكرمه، أما المؤمن كلّما أصابته مصيبة التجأ إلى الله ليجد الله قريباً مجيباً.
- إن سيدنا يوسف وهو في قمّة الملك وعلى أعظم دولة في ذلك الزمن، لم ينسَ أبداً أنه سيموت ويعود إلى الله وأن الله تعالى سيجزيه بأعماله، ولذلك فقد قال: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101].
والآن أخي الحبيب
يمكنك بعد أن فهمت هذه القصة أن تحفظها في صدرك، وذلك بأن تقوم باختيار كل عدد من الآيات والتي تشكل مقطعاً مستقلاً، وقد يبلغ عدد مقاطع السورة عشرين مقطعاً مثلاً. وتقوم بحفظ المقطع الأول ثم تحفظ المقطع الثاني، ثم تربط المقطعين وتحفظهما معاً.
بعد ذلك تبدأ بالمقطع الثالث ثم الرابع ثم تربطهما معاً وتحفظهما باستمرار، ثم تحفظ المقاطع الأربعة، بعد ذلك تأخذ فترة استراحة، وتبدأ تكرر هذه المقاطع الأربعة على اعتبارها مقطعاً واحداً حتى تحفظها جميعا. ثم تنتقل للمقطع الخامس وبعده السادس ثم تربط بينهما.... وهكذا وفق سلسلة من المقاطع وذلك حتى تنتهي من السورة بنجاح إن شاء الله تعالى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق